Canalblog
Editer l'article Suivre ce blog Administration + Créer mon blog
Publicité
La terre est ma patrie et l'humanité, ma famille
5 septembre 2013

مختصّون في التّقديس

مختصّون نحن في خلط الحابل بالنّابل، وفي تقزيم من    نشاء وتقديس من نريد. نحن نتباهى بأنّنا واعون ومثٌقفون و عارفون بأسرار الحكمة والتّبصّر والرّأي السّديد. ولسداد رأينا وحكمتنا فإنّنا نكيل التّهم لكلّ من عارضنا الرّأي و خالفنا الأفكار ورأى حقائق    لم نرها. نحن نعتمد في آرائنا على معطيات نرى أنّها صحيحة تاريخيّا، والحال أنّها مُسقطة في أذهاننا اسقاطا أحاديّ الجانب انفراديّ المنبع، لا حوار فيه ولا منازع. و منّا من وعى هذا الشّيء فينا، ولغاية    في نفس يعقوب، كرّسه و أمعن في إيغاله في أعماقنا مستعملا كلمات الحقّ التي يراد بها باطل، من وطنيّة و حداثة و تاريخ و نضال و سؤدد و بطولات وجهاد و أنفة وعزّة وكرامة. والويل والثّبور لكلّ من تحدّثه    نفسه بإسداء رأي مخالف، فهو ظلاميّ متخلّف رجعيّ حقود جاهل، ولا يريد خيرا لهذه البلاد ولا "يفقه" معنى الوطن والمواطنة والوطنيّة. هم يقدّمون لنا نمطا رأوا فيه المثاليّة و زعموا أنّه الوحيد والأوحد    الذي يجب اعتماده، والذّلّ والعار لمن لم يتبنّاه. هم لا يريدون حتّى التّدقيق العلميّ والتّمحيص التّاريخيّ في ما هو غثّ وسمين حتّى يتسنّى لنا إعطاء قيصر ما لقيصر بأسلوب علميّ معمّق و "صحيح". هم لا    يريدون التّسليم بأنّ التّاريخ لا يُكْتب من جانب واحد، خصوصا إذا كان كاتبه هو أحد الفاعلين فيه، وأنّ له معاصرون شاركوه و نازعوه فتراته و وقائعه ومُجْرياته. هم يريدون أن يُفْهموا شعبنا أنّ كلّ من    نقد "تاريخهم الذي كتبوه" هو ينقد ويمسّ ويُلَطّخ تاريخ تونس وحضارتها، وكلّ من طعن في "محاضراتهم الأحاديّة الجانب" هو يُهمّش و يقزّم تاريخ البلاد بأسرها من علّيسة إلى ثورة 14/17. هم يريدون أن    يوهموا شعبنا بأنّ البلاد قبل سيّء الذّكر الذي فرّ لا يلوي على شيء، كانت منارة يهتدي بها الحائر التّائه، ومثلا يحتذى به في العزّة والكرامة والشّموخ، و أنموذجا في الرّقيّ والتّقدّم والحداثة، والويل    لمن يقول عكس ما قيل، فهو متنكّر لوطنه خائن جاحد. ومن شعبنا أناس بسطاء -وليس في هذا تحقير- ممّن عايشوا فترة الإستقلال، ملأت آذانهم أبواق احاديّة المصدر، تمجّد لمن كان يخطّ ويكتب تاريخ البلاد    لوحده، في خطبه ومحاضراته دون مناقش أو مصحّح أو رقيب مؤرّخ، فبثّ في أذهانهم الصّورة التي أراد، فإذا بتاريخ الحركة الوطنيّة و مناقب "زعيمها الأوحد" وحكمته وخصاله تتحوّل كلّها إلى السّورة رقم 115 من    القرآن الكريم -أستغفر الله- لا نقاش فيها ولا جدال، وكأنّ هذه البلاد التي يقولون عنها أنّها ولّادة ويعظّمون من شأنها لم تنجب مثل فذّ الأفذاذ و أكبر الكبار و أعظم من خطى خطوة على هذه الأرض، والذي    لولاه لما كنّا تحرّرنا و تثقّفنا و تعلّمنا كيف نستحمّ ونلبس ونسعد في حياتنا. ومن شعبنا شباب لم يعايش فترة الإستقلال، تناهى إلى سمعه هذا الطّرح فتبنّاه دون التّدقيق في حقيقته التّاريخيّة العلميّة،    وأصبح بذلك أرضا خصبة جاهزة لتقبّل كلّ المشاتل المعروضة من زارعي نظريّة "الوطنيّة" حسب النّمطيّة التي يسوّقون لها والمنهج الذي ينادون إليه. فلهؤلاء نقول :عن أيّ ذاكرة وطنيّة نتحدّثون؟ عن تلك التي    خطّها وكتبها المرحوم بورقيبة كما أراد؟ عن تلك التي صاغ معناها و رتّب جملها و تحكّم في كنهها ووجّهها إلى شخصنته وتقديسه كما حلا له، دون معارض لما قال ودون تصحيح من مؤرّحين صادقين موضوعيّين ؟ ثمّ    هل كتِب علينا أن نبقى مرتبطين بالنّمط الذي سطّره بورقيبة وكأنّ تاريخنا وحضارتنا وبلدنا تجمّعت وانحصرت وانحسرت فأنتجت النّمط البورقيبيّ فحسب؟ هذا هو التّقزيم بعينه، وهذا هو التّحقير الحقيقيّ وهذا    هو التّصغير لشعب بأكمله. يا سادة، إفهموا أنّ أمثال بورقيبة رحمه الله في إفريقيا بالعشرات، وكلّهم اعتمدوا نفس المنهج في غسل أدمغة شعوبهم وملئها بمثل هذه التّرّهات. اسألوا المغاربة عن الحسن الثّاني    والجزائريّين عن بومدين والمصريّين عن جمال والسّينغاليّين عن سنغور... واسألوا عن باتريس لومومبا وعن سيكوتوري و عن جومو كينياتا و عن هوفوات بوانيي و عمر بانغو...و غيرهم كثير، ولكن القاسم المشترك    بينهم هو التّقديس والتّأليه والبهرج المبالغ فيه، والشّعوب المتخلّفة تتباهى بزعمائها في نشوة عارمة "كلّ حزب بما لديهم فرحون"، وإيّاك ثمّ إيّاك أن تنتقد واحدا منهم أمام مواطنيه لأنّه يجيبك بأنّه هو    من أسّس الدّولة و علّم الأجيال و أعطى البلاد ما أعطاها من سيادة و سياسة حكيمة أعلت شأنها بين البلدان. وهذا الكلام ليس نظريّا أو موجّها لأغراض سياسيّة تفيد جهة من الجهات، فلا نداء تونس يعنيني ولا    النّهضة ولا الجمهوري ولا الجبهة ولا العريضة ولا وفاء ...الخ...-طزّ و ألف طزّ في الكلّ-، ولكنّه واقعيّ حقيقيّ ملموس، لمن لم تُصَمّ آذانه بالهرسلة الإعلاميّة المتواصلة لعشرات السّنين منذ الأستقلال،    الحاملة للشّخصنة والتّقديس ليلا نهارا. أعطوني شعبا وحيدا واعيا متحضّرا ممّن يقودون العالم بأسره الآن، يحتفلون بطريقتنا نحن ويبالغون في إظهار مناقب أقطابهم: من أيزنهاور إلى تشيرشيل إلى ديقول    والقائمة تطول... أعطوني أغنية واحدة من أغانيهم الوطنيّة يلوكونها في مناسبة أو في أخرى. أفنحن الوطنيّون وهم لا يفقهون الوطنيّة؟ أفنحن الأبطال والرّجال وهم ناقصي بطولة أو رجولة؟ أفنحن جهابذة    الشّهامة والكرامة والعزّة والأنفة لوحدنا؟ ألم نفهم أنّ الله خلق الإنسان من معدن واحد وطينة واحدة، أم أنّنا ننتمي إلى جنس آخر من المخلوقات؟ ألم نفهم أنّ الدّولة الحديثة تُبْنى على مِؤسّسات قويّة    وقوانين صلبة لا على أشخاص وزعامات؟ ألم يأن لنا أن نتخلّص من "حكيم زمانه" و"عبقرينو عصره"، ونؤسّس لبلد عتيد بمؤسّساته و تشاريعه ومنظوماته الرّاسخة القويّة التي تبقى شامخة بقطع النّظر عن "السّلطان    زحزح" وعن هذا الحاكم أو غيره؟ لماذا نربط مصيرنا بعدل من حكمنا أو ظلمه؟ ألا يجول بخاطرنا أنّ هذا البهرج في الإحتفالات والتّطبيل والغناء بعنوان الوطنيّة هو يمثّل فعليّا "كلمة حقّ أريد بها باطل؟    لماذا ننعت كلّ من لم يتّبع هذا المنوال بأنّه غير وطنيّ و يستصغر ويتهاون وينسف و يقزّم الوطن وتاريخه وحضارته؟

Publicité
Publicité
Commentaires
Publicité
Archives
Visiteurs
Depuis la création 22 675
Publicité